كانت الأحداث فى أوروبا فى نهاية الثمانينيات هادئة للغاية، فقد انهار جدار برلين وسط هدوء إعلامي وكأنه تحصيل حاصل بعد الذي حدث للمعسكر الشيوعي في العالم، كنت وقتها بلغت من العمر أربعة عشر عاما، أذكر جدار برلين وهو مغطى بالشعارات، أذكره وهو يهدم بالمطارق وكأن الشعبين على جانبيه ينتقمان من التاريخ. حينها كنا نتابع الحدث، أذكر أنني لم أكن أفهم ما يحدث ولكنني كنت مستمتعا، فقد شعرت أن العالم يتغير للأفضل. ربما !!
انتهى الحدث وهدأ الإعلام العالمي حتى عن مناقشة أحوال ألمانيا ومستقبلها بعد الوحدة، ولكن فجأة نظرنا جميعا في وقت واحد إلى شاشات التلفاز مرة أخرى.. إنها ثورة، لقد قامت ثورة مليونية في رومانيا، كان ذلك فى ديسمبر 1989 عشية الاحتفالات بأعياد الميلاد، تابعناها جميعا بترقب، كنت أنظر إلى الشاشة وأجد قتلى وجرحى وخطب رسمية وجيش وأمن يقتل الناس دون رحمة، ولا أفهم لماذا ولا أحد يجيبني عما أسأل، من الواضح أنني كنت نكرة لا أذكر. ولكني الآن أعرف.
هل سيضحك علينا العالم مثلما فعلوا بعد ثورة رومانيا ؟ هل سنصبح مادة للسخرية كما حدث ولا يزال يحدث حينما يتذكر البعض ثورة رومانيا ؟ صدقوني.. الآن أضحك من قلبي حينما أتذكر ما حدث. ترى ماذا حدث؟!!
امتلك "نيكولاي تشاوشيسكو" أقوى جيش في شرق أوروبا، وكان يدعم نظامه جهاز مخابرات من أقوى أجهزة المخابرات في العالم، وجهاز شرطة قمعي إلى أقصى الحدود التي يمكن أن تتصورها.
حكم "تشاوشيسكو" رومانيا ما يقرب من خمسة وعشرين عاما، كانت أقرب إلى المعتقل للشعب الروماني، حتى خنق روحه، وأغلق عليه كل مناحي الحياة، وضيق عليه عيشته، سرق رزقه، حتى انفجر الشعب ثورة.
فجأة.. وبدون سابق إنذار تتالت على شاشات التلفزيون صور قتلى الثورة الرومانية، وتوالت أيضا أخبار المؤامرات الأمريكية والإسرائيلية والمندسين والمتآمرين ونشر صور الأجانب وسط الثوار – رغم انهم أجانب في أجانب بس ما علينا – توالت الأحداث وكانت الصحافة الفرنسية والتليفزيون الفرنسي أكثر المهتمين بالحدث الجلل في رومانيا، على الرغم من أنه تعرض إلى فضيحة تلاحقه حتى هذه اللحظات من جراء التضليل والمعلومات المغلوطة التي بثها التليفزيون الفرنسي آنذاك.
بدأت الأحداث في بلدة "تيميشوارا" على الحدود مع المجر، في 17 ديسمبر 1989، كانت هناك تظاهرة قام بها الأهالي ضد طرد القس البروتستانتي "لازلو توكس"، وكان هذا القس من المعارضين للنظام، وانتهت التظاهرة بحمام من الدماء، لقي خلاله الآلاف من الأشخاص مصرعهم. فأثيرت مشاعر شعب رومانيا، فازدادت الأمور حدة وتعقيداً، حتى انتفض الشعب وأصبحت ثورة، وفي خلال أسبوعين فقط سقط "تشاوشيسكو"، بعد أن سقط ضحية العنف الأمني الآلاف من أبناء شعب رومانيا.
كابوس مخيف، أن تصحو من النوم يوما وتجد أن النظام الذي مات أخوك وجارك وصديقك من أجله قد عاد مرة أخرى.
كانت ثورة رومانيا من أعظم الثورات في التاريخ، فرح العالم وفرح الشعب الروماني، وجعل يتناقل الشعارات التي تتفاخر بحضارته وعراقته، وجعل الشباب ينظرون إلى المستقبل بإشراق، ويدعون إلى ضرورة الاهتمام ببلدهم والعمل على رقيها لتلحق بركب بقية الدول الأوروبية، وأخيرا تمكن الشعب من تحقيق النصر، وتم تقديم "تشاوشيسكو" وزوجته إلى المحاكمة، وتم إعلان الحكم.. الإعدام رميا بالرصاص.. وتم التنفيذ.
انهار آخر معاقل الستالينية في أوروبا الشرقية تحت أنظار ملايين المشاهدين في العالم – وأنا منهم كنت أترقب الأحداث وأعجب بالضباط الرومان وهم يقتلون في الناس، فقد كنت أحب أفلام الحركة والقتال، وخيل لي أن الأبطال هم جنود تشاوشيسكو، وتتابعت صور العنف في الفيلم مشهد تلو الآخر، ليختتم في النهاية بمشاهد إعدام البطل – ولكنه ليس فيلما، إنه حقيقة. فمع سقوط "تشاوسيسكو"، سقط الحزب الشيوعي الروماني، والشيوعية في رومانيا. لا يمكن أن يحدث ذلك، لقد نسي الشعب الروماني أن يحاكم نظام "تشاوشيسكو"، هؤلاء الطغاة معاونيه وأتباعه وأعضاء حزبه الشيوعي الفاسد. وقد كان..
عودة نظام "تشاوشيسكو" إلى هرم السلطة بعد سنة ونصف بالضبط. وعاد الطغيان والقمع وكبت الحريات من جديد، وتم تصفية رموز الثورة جسدياً وحدثت اعتقالات بالجملة وإعدام بالجملة لكل رافض لهم.
مشاهد ليست بالبعيدة، وهذه هي رومانيا ليست ببعيدة، اسألوا شبابها الثائر أين كان الخطأ؟؟ ولماذا حدث ذلك؟؟ لا نريد أن يسخر منا العالم. من ثورة مصر، تونس، ليبيا، سوريا، اليمن، وثورات كل الشعوب الحرة.. لا نريد أن يسخر منا أحد..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق