بقلم :د.زينب أبو المجد
باكستان بحق حالة فوضوية منكوبة، فهى جمهورية حكمها لأكثر من ستين عاما منذ استقلالها -باستثناء سنوات قليلة- رؤساء من جنرالات المؤسسة العسكرية، وصعدت للسلطة مؤخرا فيها أحزاب إسلامية بعضها شديد التطرف، ويمارس الجيش فيها نفوذا فوق سلطة الحكومة والبرلمان، ونتيجة كل ذلك، تجرجر باكستان أذيال فقرها المدقع وتخلفها وراء جارتها اللصيقة وأختها الشقيقة الهند الصاعدة اقتصاديا بسرعة الصاروخ. أوجه المقارنة بين التجربة الباكستانية ومصر ما بعد الثورة تبدو إذن وجيهة!
فى واقع الأمر، توجد فى تلك الدولة المهترئة معادلة ثلاثية قاتلة قوامها الجيش والإسلاميون والبيزنس.
فلنبدأ بالجيش وعلاقته بالإسلاميين. فى باكستان تحالف صريح بين العسكر والمسجد، فقد أعلنت النخبة العسكرية الحاكمة لنفسها مبكرا منذ عقود «هوية إسلامية» توظفها فى صراعاتها الداخلية على السلطة وفى حروبها الخارجية. أخرجت تنظيمات إسلامية فى الأسبوع الماضى آلافا فى مظاهرة حاشدة لتأييد العسكر فى مدينة لاهور، وهتفوا «عاش الجيش الباكستانى»، وأعلن قائد المظاهرة أن الإسلاميين جميعهم فى باكستان مؤيدون للجيش.. قصة عمل الكثير من الأحزاب الإسلامية الممثلة فى البرلمان الباكستانى بشكل تابع وثيق مع العسكر معروفة وبادية للجميع، ولكن الأهم والأخطر هو توظيف المخابرات العسكرية الباكستانية سرا للأحزاب والجماعات الإسلامية وبالأخص المتطرفة منها.
صعدت الأحزاب الإسلامية للمشهد السياسى فى باكستان فى انتخابات عام ٢٠٠٢، حيث حصد عديد منها من مختلف المشارب أغلبية المقاعد فى البرلمان، وكان لحزب معين موالٍ للمؤسسة العسكرية -حزب الرابطة المسلمة- النصيب الأكبر من تلك المقاعد.
فى عام ٢٠٠٨ شهدت باكستان ما يشبه ثورة ضد حكم العسكر عقب انتخابات برلمانية صبغتها دماء كثيفة. حصد حزب غير إسلامى هو حزب الشعب الباكستانى -بعد اغتيال زعيمته بينظير بوتو- أغلبية المقاعد فى البرلمان، ثم تم إجبار آخر رئيس عسكرى، الجنرال برويز مشرف، على الاستقالة، وفوق ذلك تم انتخاب أرمل بوتو رئيسا جديدا للجمهورية. قد تبدو الصورة الآن وردية طيبة، لكن لم تنعم باكستان منذ ذلك الحين بلحظة من الاستقرار.
نعم أتت انتخابات ٢٠٠٨ ببرلمان حصل فيه حزب بوتو وأرملها على أكثر عدد من المقاعد، لكن بقية المقاعد جميعها تقريبا ذهبت لأحزاب إسلامية أغلبها حليف مقرب وصديق صدوق للعسكر. الحكومة الحالية لا تستطيع التنفس من نفوذ الجيش، وعلاقتها به طوال الوقت متوترة، حتى إن البعض الآن يردد أن أرمل بوتو فى الحقيقة رئيس يملك ولا يحكم، وتنتشر الشائعات أنه على وشك الإطاحة به فى انقلاب عسكرى مرتقب!
تستخدم المخابرات الحربية الباكستانية عديدا من تنظيمات الإسلام السياسى المتطرفة بالداخل لمصلحتها، وفى الخارج تساند طالبان، وقامت بإيواء بن لادن واعتبرت مقتله على أرضها إهانة أمريكية لها. جهاز «آى إس آى أو» (المخابرات العسكرية فى باكستان) دولة داخل الدولة، على الرغم من أنه دستوريا من المفترض أن يخضع لمحاسبة رئيس الحكومة. ضباطه المنتقَون من صفوف الجيش أسهموا فى فوز حلفائهم من أحزاب إسلامية متشددة بحكم مقاطعتين من مجموع أربع مقاطعات فيدرالية فى دولة باكستان عام ٢٠٠٢، وطبقت تلك الأحزاب على شعب المقاطعتين ما يشبه حكم طالبان عند جارتهم أفغانستان.
والآن المؤسسة العسكرية وعلاقتها بالبيزنس. يدير الجيش الباكستانى إمبراطورية من الشركات والأعمال الخاصة التى تصل قيمتها على أقل تقدير إلى ١٥ مليار دولار، حيث إن ضباط الجيش المتقاعدين ومن لا يزالون فى الخدمة يتحكمون سرا فى تكتلات صناعية هائلة يتبعها آلاف من الشركات ويمتلكون نحو ١٢ مليون فدان من الأراضى العامة، ويقومون بإنتاج كل شىء، بداية من الأسمنت إلى الكورن فليكس لإفطار الصباح! كل شارع فى كل مدينة باكستانية يحمل بصمة الهيمنة الاقتصادية للجيش -كما تقول الباحثة الباكستانية عائشة صديقة مؤلفة كتاب «شركة العسكر المتحدة»- فالجيش يمتلك مخابز وبنوكا وشركات تأمين وجامعات، ويتحكم فى ثلث الصناعات الثقيلة، ولكنه يخفى كل ذلك خلف واجهة من الموظفين المدنيين.
الأمر الفادح أنه لا يوجد أى شفافية فى ميزانية الجيش الباكستانى، ولا يخضع لأى محاسبية من قبل الحكومة أو البرلمان. من المفترض أن يعيد الجيش ضخ مكاسبه فى خدمات للشعب فى شكل مدارس ومستشفيات وخلافه، ويدعى الجنرالات أنهم بالفعل يقومون بهذا وأن لديهم ملايين المستفيدين من المواطنين، ولكن من الصعب إثبات صدقهم فى غياب أى رقابة على دفاترهم السرية. يعيش بيزنس الجيش الباكستانى -الذى يعانى من عدم كفاءة مديريه من العسكر- على دعم ضخم خفى تقدمه له الدولة، فى شكل أراضٍ مجانية وقروض تنقذه عند تعثره، ويشوبه فساد بيّن فى علاقته مع رجال الأعمال من خارج المؤسسة العسكرية.
تكتسح الأحزاب الإسلامية الانتخابات البرلمانية فى مصر الآن أمام أعيننا، ويتصاعد مع ذلك الجدل حول صفقات وتحالفات من تحت المائدة بينهم وبين المؤسسة العسكرية المصرية. تطوعت القوات المسلحة بتأمين اللجان الانتخابية، وقسّم جنرالات المجلس العسكرى المحافظات على أنفسهم ليشرف كل واحد منهم بنفسه على الانتخابات فى إحداها، ثم غضوا البصر بشكل مثير للريبة عن الانتهاكات القانونية الظاهرة كعين الشمس للجميع التى ارتكبها الإخوان وحزب النور على أبواب اللجان وداخلها.
من ناحية أخرى، كشفت إحدى برقيات «ويكيليكس» مؤخرا عن مسألة الهيمنة السرية للقوات المسلحة على جزء ضخم من الاقتصاد المصرى، يقدره بعض الخبراء بما بين ٢٥ و٤٠ فى المئة منه، حيث ذكرت تلك البرقية المسربة على لسان سفيرة أمريكية سابقة أن الجيش تمتد سيطرته على قطاعات كثيرة، بدءا من إنتاج المياه الغازية والزيتون، إلى امتلاك شركات مقاولات ومساحات شاسعة من الأراضى وإدارة الفنادق، ولا يخضع كل ذلك للضرائب أو رقابة الحكومة أو البرلمان.
بالنظر إلى كل ما هو بأعلاه، هل سيقبل ثوار مصر أن يتحول الوطن إلى باكستان تعسة أخرى؟ سؤال مقلق يحتاج إلى إجابة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق