الأحد، 11 مارس 2012

نص تقارير المخابرات الأمريكية عن قضاة مصر بعد الثورة



ظل العديد من القضاة طوال عقود طويلة سابقة في نضال مستمر من أجل استقلال القضاء حيث كان رؤساء مصر في أغلب الأحيان لم يراعوا سيادة القانون، ولذلك مارسوا باستمرار تكتيكات متغيرةِّ لاستخدام القانون وعدم تمكين القضاة المستقلين، ولما للقضاة من دور بارز وتأثير هام في مجريات الحياة العامة قام الباحث الأمريكي ناثان براون أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن بدراسة عن قضاة مصر في عصر الثورة، وقد لجأ الباحث في دراسته إلي الحديث عن أهمية القضاء بالنسبة للحكام، فقال "براون" إنه حين كان الحاكم يريد حكماً قضائياً، كان يشكّل محاكم استثنائية أو يتحرّك خارج الهيئة القضائية برمتها، بدلاً من إخضاع السلطة القضائية العادية إلي إرادته السياسية.

وقد أجري الباحث سلسلة من المحادثات الشخصية مع قضاة مصريين أجريتُ علي مدي سنوات، توصل من خلالها إلي تباين القضاة بشدة في مواقفهم إزاء هذه المشاكل التي تعترضهم، فالبعض كان حانقاً بشدة، والبعض الآخر كان مستسلماً بسكينة وإن باشمئزاز، وقد أبلغ الباحث ذات مرة قاض بارز قائلاً له: « إذا ماكان في مقدورنا وقف التعذيب، فسنفعل. لكن إذا ماحاولنا، ستكون هذه نهايتنا»، وحين التقي "براون" مع قاض بارز آخر خلال زيارته للولايات المتحدة، سأله عما إذا ماكان يريد الاجتماع ببعض قادة منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية، فرفض الإجابة مكتفياً بالقول: إنهم سيسألوننا عن التعذيب، ونحن لانريد أن يكون لنا أي علاقة بذلك». بعض القضاة كانوا أحياناً داعمين لوسائل النظام. وقد تحدث قاض بارز آخر مرة عن انتخابات 2005 وعن الضرورة المُتصوّرة لمنع جماعة الإخوان المسلمين من السيطرة فقال: «ليس أمراً جيداً منع الناس من التصويت، بيد أن هذه مهمة الدولة»

ويؤكد الباحث ان النظام قد اتخذ في سلسلة من التعديلات الدستورية التي أُجريَت في العام 2007، تدابير يضمن من خلالها سدّ المنافذ التي كان يستغلها القضاة، فسلِّمَت مهمّة مراقبة الانتخابات، إلي لجان انتخابية.

ويتابع الباحث حديثه في دراسته المنشورة بمركز كارنيجي للسلام المقرب من المخابرات الامريكية أن القضاة الإصلاحيين سدّدوا ضربةً للنظام المصري في سمعةُ هذا النظام باعتباره دائرةً مغلقةً من الفساد واستغلال السلطة كانت كارثيةً بالنسبة إليه في العام 2011، معتبراً الصراع مع القضاة ساهم في تشويه سمعة النظام التي اتّسمت بمزيد ومزيد من الوحشية. وفي نشوة الأيام الأولي للثورة المصرية، غالباً ما امتدح الثوّار النظام القضائي علي أنه حصن للنزاهة وليس مجموعة مُستلحقة. في الأشهر التي تلت إخراج مبارك من السلطة، سلِّمت رئاسة مجلس القضاء الأعلي إلي حسام الغرياني، وهو مشارِك هادئ ولكن نشط جداً في التحرّك القضائي السابق، كما عاد هشام البسطويسي، أحد كبار القضاة وأحد قادة الحركة الثورية، إلي مصر آتياً من منفاه في الكويت، وأعلن نيّته الترشح للرئاسة، وحتي القضاة الذين كانوا قد تحاشوا الخوض في المواجهات السابقة مع النظام عادوا.

ويكمل الباحث أن هناك مسئوليات ومهام عامة وبارزة هبطت علي القضاة، مثل مهمة الإشراف علي الانتخابات أو إدارة مؤسسات اقتصادية معزولة، صحيح أنهم افتخروا بتسلّم هذه الأدوار وكانوا علي ثقة بأنهم قادرون علي الاضطلاع بها، إلاأنهم لم يستطيعوا أن ينكروا أن العبء كان ثقيلاً علي كاهلهم، خصوصاً في ظلّ جولات التصويت الطويلة والمضجرة في مصر. طبعاً، العدد غير الكافي من القضاة هو مايؤدّي إلي إجراء الانتخابات البرلمانية في جولات ثلاث.

العسكري يبحث عن طرق للالتفاف حول القضاء

وقد أشار الباحث في دراسته إلي محاولات تسعي للالتفاف حول القضاء، وربما إلقاء العديد من المهام الثقيلة علي أعتاق القضاة جعلهم يشعرون بأنهم قادرون علي تحمّل الأعباء كافة الملقاة علي عاتقهم،في حين أن الحكام العسكريين المؤقّتين لا يشاركونهم الشعور نفسه إطلاقاً، فالضباط يسعون إلي المحافظة علي النظام ولاينوون الاعتماد علي نظام المحاكم المتلكِّئ في مصر، ولذلك يستمرّون في استخدام محاكمهم العسكرية بلا توقّف، مولّدين السخط لدي العديد من المجموعات التي كانت وراء ثورة 25 يناير، كما أنهم أصرّوا علي أن تبقي حالة الطوارئ، التي أعلنها نظام مبارك، سارية المفعول حتي يونيو 2012، ويقول "براون" إن النظام القضائي والسياسي في مصر عمل لفترة طويلة في ظلّ حالة الطوارئ، حتي أصبح هذا أمراً معتاداً اليوم؛ وبالتالي يجد القضاء العادي نفسه مهمَّشاً في مسائل كثيرة.

الانقسامات داخل السلطة القضائية

وأضاف الباحث الأمريكي أن هناك مصدراً أخيراً للقلق في عصر مابعد الثورة يتمثّل في أن المنافسات داخل السلطة القضائية - في الماضي والحاضر والمستقبل - تبدو حادة جداً، في مايتعلق بالماضي، ظهرت دعوات لتطهير الجهاز القضائي من المتورّطين في تجاوزات النظام السابق.

اختراق الإخوان المؤسسة القضائية

ويرصد "براون" ثمّة انقسام آخر في الوقت الحالي بين القضاة، وهو الانقسام الذي يمكن أن يكبر في المستقبل، ويتعلق بالتوجّه السياسي العام. إذ لم يكن من المرجّح لأعضاء الجماعات الإسلامية، وحتي أولئك الذين يشتبه في تعاطفهم معها، أن يعيّنوا كقضاة في ظل النظام السابق، حيث كانت الأجهزة الأمنية ستمنع تعيينهم، بيد أن القضاة المحافظين اجتماعياً ودينياً انضمّوا إلي السلك القضائي، ويبدو أن بعضهم قد طوروا ميولاً إسلامية عامة، ولكن ملحوظة، مع تقدم حياتهم المهنية؛ كانت المجموعة الإصلاحية في منتصف العقد الماضي في الواقع متنوّعة إيديولوجياً، وتضمّنت بعض الأعضاء من ذوي الميول الإسلامية، علي الرغم من أن الأخلاقيات غير الحزبية كانت قويّة بما يكفي لجعل الانتماء الرسمي لأي حركة غير وارد. في بعض الأحيان يدور همس حول أعضاء عدة بارزين في السلطة القضائية الحالية، بما في ذلك الغرياني نفسه، بسبب ميولهم الإسلامية المفترضة. ويصعب التحقّق من الشكوك حتي بعد التقاعد. فبعد أن تقاعد من العمل القضائي، انتخب محمود الخضيري، أحد قادة الإصلاحيين، لعضوية البرلمان في العام 2012 بدعم قوي من جماعة الإخوان المسلمين، وتولي رئاسة اللجنة القانونية في المجلس؛ وأياً كان النظام السياسي الذي يحمله المستقبل لمصر، فمن المرجّح أن يكون مستقبلاً يخفّ فيه إلي حدّ كبير التدقيق الأمني الصارم الذي ساد في العقود الماضية، ويري "براون" أن الإسلاميين يتمتعون بحضور واسع في الحياة العامة المصرية، وبعد أن تمكّن الإسلاميون من التسلّل من خلال الفجوات إلي المناصب القضائية في النظام السابق، ربما يشهد الاتجاه الإسلامي زيادة كبيرة في السنوات المقبلة، ومن المرجّح لهذا النوع من التنوّع الإيديولوجي الموجود بالفعل في القضاء المصري أن يزداد نتيجة لذلك، ليس في شكل مماحكات حزبية مجرّدة من المحرّمات بين القضاة.

قانون جديد للتنظيم القضائي

وتطرق الباحث إلي قانون التنظيم القضائي حيث ذكر في دراسته أن المنافسات داخل السلطة القضائية، والكشف السياسي عنها، كانت علي أشدّها علي مدي العام الماضي في الصراع علي ماينبغي أن يكون الإنجاز الأكبر للقضاء بعد الثورة: كتابة قانون جديد للتنظيم القضائي من شأنه إضفاء الطابع المؤسسي علي تصوّر القضاء نفسه للاستقلال الكامل، الصراع علي هذا القانون قديم يمتدّ إلي العقد الماضي، وأبعد من ذلك. وقد ضغط القضاة من أجل إقرار سلسلة من الإصلاحات من شأنها إنهاء تدخّل السلطة التنفيذية في شئونهم وإقامة فصل أوسع بين السلطات.

ويشير الباحث إلي أن القضاة بعد الثورة بدأوا العمل علي صياغة قانون كان من المرجّح أن يحظي بدعم جميع القوي السياسية، فقد عملوا علي سنّ قانون أكثر قوة لمجلس القضاء الأعلي، وجعله أكثر تحرّراً من رقابة السلطة التنفيذية، ونقلوا إلي المجلس وظائف تخص وزارة العدل في الوقت الحالي. وحتي الوسائل غير المباشرة للتأثير علي القضاة، مثل منح الإعارات المغرية، ستوضع في عهدة القضاء بدلاً من السلطة التنفيذية. وسيتمثّل تأثير ذلك في جعل القضاء هيئة مستقلّة أكثر بكثير من حيث الميزانية وإدارة شئون الموظفين. وهذا هو الهدف الذي لا أحد يشكك فيه في جوّ مابعد الثورة، ومع ذلك، فقد كان الطريق صعباً، قام القضاة بمحاولتين منفصلتين لصياغة مشروع القانون، تمّت إحداهما من جانب نادي القضاة، فيما عَهِدَ رئيس المحكمة العليا الغرياني بالأخري إلي لجنة برئاسة أحمد مكي، أحد المعارضين البارزين في منتصف العقد المنصرم، كان ثمّة اختلافات طفيفة بين النسختين اللّتين تم وضعهما، ولكن مرارة الخصومات السابقة أدّت إلي هجمات قاسية طيلة عمليتي صياغة القانون، وطأ كلا المشروعين علي لغم غير مُتوقّع عندما تضمّنا أحكاماً تسمح للقضاة بمعاقبة المحامين الذين ينتهكون قواعد النظام واللياقة في قاعة المحكمة. واحتجّ المحامون، الذين ادّعوا أن قانونهم الذي ينظّم مهنة المحاماة يمنحهم حصانة في قاعة المحكمة، علي اقتراح السلطة القضائية، ورأي قادة نقابة المحامين الذين كانوا متورّطين في انتخاباتهم في ذلك معركة جديرة بأن تُخاض، وذهبوا إلي حدّ الدعوة إلي الإضراب وتنظيم المظاهرات للدفاع عن أنفسهم ضد ما اعتبروه محاولة من جانب السلطة القضائية لضبط صفوفهم بطريقة استبدادية تليق بالنظام السابق سيئ السمعة أكثر منها بالعصر الديمقراطي الجديد في مصر. وقد بدأ القضاة يشعرون أن موجات التأييد الشعبي لمعاركهم من أجل الاستقلال بدت تافهة من الناحية السياسية، تراجع الغرياني الذي اكتوي بنار الانتقادات الخارجية، وعاني من الانقسام بسبب المعارك الداخلية. وأعلن لزملائه في السلك القضائي أنه سيتم تأجيل الأمر كلّه حتي ينعقد البرلمان، كان قراره معقولاً علي بعض المستويات، ولكنه ترك أيضاً زملاءه في حيرة من أمرهم، فإذا كانت المسألة ستنتظر مجلس الشعب، فلماذا كان كل هذا الإلحاح علي صياغة القانون؟

ورأي الباحث أن قرار الغرياني أثار الدهشة عندما عملت رسالته إلي زملائه علي تملّق المحامين عن طريق الإشارة إليهم بوصفهم الجزء «الواقف» من القضاء للتمييز بينهم وبين القضاة «الجالسين» علي طاولة العمل، كان الإيحاء بأن المحامين مساوون في السلطة والمكانة في الأمور الخاصة بقاعة المحكمة للقضاة الذين يترأسونها في الواقع مسيئاً لبعض أعضاء السلطة القضائية.

ليست هناك تعليقات: