حالة الطوارئ هي إحدى معالم الثقافة السياسية السائدة عند نظم العالم الثالث التي تغيب عنها أي ظلال للديمقراطية أو الحريات العامة أو كرامة الإنسان ، ولا يوجد فيها سوى الحاكم الفرد والعصابة التي تنتفع من وجوده وتتحلق حوله وتمثل يده التي يبطش بها أو يسرق بها أو يستعبد الناس بها ، وفي ظل حالات الطوارئ ونظمها ينتشر عادة الفساد على نطاق واسع وينتشر العنف الاجتماعي والجرائم بمختلف ألوانها ، لأن المؤسسة الأمنية تعرف أن الطوارئ وظيفتها الأساسية سحق الاحتجاج السياسي وتقليم أظافر المعارضة وكل ما دون ذلك حواشي ، فحالة الطوارئ لا تعلن في أي مكان في العالم إلا لمواجهة حالات الاضطراب السياسي والمعارضة الشعبية واسعة النطاق التي تهدد نظام الحكم القائم ، وتقريبا لم يذكر التاريخ أن حالة الطوارئ بمفهومها الشامل قد عرفت في أي دولة ديمقراطية في العالم ، باستثناء أوقات الحروب ، وبالتالي فعندما يحدثنا بعض "حكماء الغبرة" عن إعلان حالة الطوارئ لمواجهة المجرمين والبلطجية والخارجين على القانون فإنهم يمارسون محاولة ساذجة لخداع الناس أو "اشتغالهم" كما يقول العامة .
والتطور الخطير الذي حدث قبل أيام بالاندفاع السريع والمفتعل لتمديد حالة الطوارئ في مصر وتفعيلها بدعوى السيطرة على البلطجة والانفلات الأمني هو محض خداع لا يكفي لستر "شهوة" السيطرة التي بدأت تظهر عند أجنحة في السلطة الحالية ، والبديهة تقول أن الحكومة التي تعجز عن تحقيق مصالح الشعب والدولة في الاقتصاد أو الأمن أو العدالة فإن كل ما عليها أن تقدم استقالتها لكي تخلي مكانها أمام حكومة بديلة تكون أقدر على تحقيق ما عجزت عنه بدلا من أن تطالب بإطلاق يدها في قهر الشعب والمزيد من الصلاحيات الخارجة عن نطاق القانون ، وحالة الانفلات الأمني التي تنتشر الآن كانت كافية تماما لتقديم حكومة عصام شرف استقالتها ، لتخلي الساحة أمام حكومة وطنية جديدة تقوم بواجباتها لضبط الأمن وتفكيك مؤسسة البلطجة التي صنعها نظام الطوارئ .
أيضا البحث عن قانون أو قوانين أخرى من أجل مواجهة حالة الانفلات الأمني تستدعي ـ بداهة ـ أن تكون السلطات القائمة قد طبقت القانون العادي والأصلي لمواجهة الخارجين على القانون والبلطجية ، فإذا فشلت رغم استنفاذها الجهد لتطبيق القانون ، ربما يكون لها وجه أن تطلب قوانين أخرى أو تعديل القانون القائم ، أما أن تكون الحكومة وجهازها الأمني يرفض بإصرار تطبيق القانون العادي ويتعمد إهداره ويتعمد ترك البلطجة والخارجين على القانون يرتعون في الأحياء والمدن والقرى ، وهو يعرفهم بالاسم ويعرف جرائمهم بالتفصيل ويتابعهم بكل دقة ، ثم يقول بعد ذلك أنه في حاجة إلى الطوارئ من أجل السيطرة لأن القانون العادي لا يكفي ، فذلك يعني أن الأمر لا يتعلق بمواجهة الجريمة وضبط الأمن ، وإنما بأغراض أخرى نعرفها جميعا .
لماذا لم يسأل المجلس العسكري حكومة شرف ووزير داخليته عن سبب امتناعه عن تطبيق القانون في مواجهة البلطجة وفوضى المرور وانتشار السرقات ، لماذا لم يسأل وزارة الداخلية عن سبب تركها لبلطجية معروفين للأهالي بالاسم وهاربين من السجون ومدانين بأحكام باتة ومع ذلك يقيمون في منازلهم عيني عينك ويتجولون في الشوارع جهارا نهارا بل ويفرضون الإتاوات على المحلات والسائقين ، كل ذلك أمام أعين ضباط الشرطة الذين يتفرجون على المشهد بسعادة غامرة ، ولا ينتهي دور البلطجي إلا بعد أن يضج الأهالي من جبروته وتواطؤ الشرطة معه ، فيقومون قومة رجل واحد ويقبضوا هم عليه ويسحلوه أو يقتلوه ، دون أن يفكروا لحظة واحدة في تسليمه للشرطة ، لأسباب يعرفها الأهالي ولكن ربما المجلس العسكري لا يعرفها .
قلنا وقال غيرنا ألف مرة من قبل أنه لا بد من تطهير المؤسسة الأمنية بشكل هيكلي وشامل ، لأن كثيرا من قياداتها وكوادرها متورط في "تسريح" البلطجية وحمايتهم وتوظيفهم في أعمال قذرة مثل الانتخابات وردع بعض المعارضين ، ولو أتيت بكل قوانين الردع في الدنيا لن تحل لك المشكلة ، لأن الجهاز الذي يطبق القانون غير مؤهل لتحقيق الأهداف الوطنية المرتجاة من وجود القانون ، بل لأن هذا الجهاز اعتاد أن يعمل بدون قانون أساسا فقد عاش خبرته كلها في ظل "نعيم" الطوارئ ، واعتاد أن يكون قراره هو القانون وإرادته هي الشرعية ، ناهيك عن أن قطاعا واسعا من المؤسسة الأمنية يعيش مشاعر "ثأر" مع الشعب غير مبررة ، منذ انتصار الثورة وينتظر بفارغ الصبر اللحظة التي يمكنه فيها وضع "بيادته" فوق رؤوس البشر من جديد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق